فصل: الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو وولاية ابنه أبي تاشفين من بعده:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن خروج محمد بن يوسف ببلاد بني توجين وحروب السلطان معه:

لما رجع محمد بن يوسف من قاصية الشرق كما قدمناه وسابقه إلى السلطان موسى بن علي الكردي وجوانحه تلتهب غيظا وحقدا عليه وسعى به عند السلطان فعزله عن مليانة فوجم لها وسأله زيارة ابنه الأمير أبي تاشفين بتلمسان وهو ابن أخته فأذن له وأوعز إلى ابنه بالقبض عليه فأبى من ذلك وأراد هو الرجوع إلى معسكر السلطان فخلى سبيله ولما وصل إليه تنكر له وحجبه فاستراب وملاء قلبه الرعب وفر من المعسكر ولحق بالمرية ونزل على يوسف بن حسن بن عزيز عاملها للسلطان من بني توجين فيقال أنه أوثقه اعتقالا حتى غلبه قومه على بغيته من الخروج معه لما كان السلطان أبو حمو يوسقهم به من نزاعته فأخذ له البيعة على قومه ومن إليهم من العرب وزحفوا إلى السلطان بمعسكره من نهل فلقيهم في عساكره فكانت الدبرة على السلطان ولحق بتلمسان وغلب محمد بن يوسف على بني توجين ومغراوة ونزل مليانة وخرج السلطان من تلمسان لأيام من دخولها وقد جمع الجموع وأزاح العلل وأوعز إلى مسعود بن برهوم بمكانه من حصار بجاية بالوصول إليه بالعساكر ليأخذ بحجزتهم من ورائهم وخرج محمد بن يوسف على مليانة لاعتراضه واستعمل على مليانة يوسف بن حسن بن عزيز فلقيه ببلاد مليكش وانهزم محمد بن يوسف ولجأ إلى جبل مرصالة وحاصره بها مسعود بن برهوم أياما ثم أفرج عنه ولحق بالسلطان فنازلوا جميعا مليانة وافتتحها السلطان عنوة وجيء بيوسف بن حسن أسيرا من مكمنه ببعض المسارب فعفا عنه وأطلقه ثم زحف إلى المرية فملكها وأخذ الرهن من أهل تلك النواحي وقفل إلى تلمسان واستطال محمد بن يوسف على النواحي ففشت دعوته في تلك القاصية وخاطب مولانا السلطان أبا يحيى بالطاعة فبعث إليه بالهدية والآلة وسوغه سهام يغمراسن ابن زيان بإفريقية ووعده بالمظاهرة وغلب ساق سائر بلاد بني توجين وبايع له بنو تيغرين أهل جبل وانشريس فاستولى عليه ثم نهض السلطان إلى الشرق سنة سبع عشرة وسبعمائة وملك المرية واستعمل عليها يوسف بن حسن لمدافعة محمد بن يوسف واستبلغ في أخذ الرهن منه ومن أهل العمالات وقبائل زناتة والعرب حتى من قومه بني عبد الواد ورجع إلى تلمسان وأنزله بالقصبة وهي الغور الفسيح الخطة تماثل بعض الأمصار العظيمة اتخذها للرهن وكان يبالغ في ذلك حتى يأخذ الرهن المتعددة من البطن الواحد والفخذ الواحد والرهط وتجاوز ذلك إلى أهل الأمصار والثغور والمشيخة والسوقة فملاء تلك القصبة من أبنائهم وإخوانهم وشحنها بالأمم بعد الأمم وأذن لهم في ابتناء المنازل واتخاذ النساء واختط لهم المساجد فجمعوا بها لصلاة الجمعة ونفقت بها الأسواق والصنائع وكان حال هذه البنية من أغرب ما حكي في العصور عن سجن ولم يزل محمد بن يوسف بمكان خروجه من بلاد توجين إلى أن هلك السلطان والبقاء لله.

.الخبر عن مقتل السلطان أبي حمو وولاية ابنه أبي تاشفين من بعده:

كان السلطان أبو حمو قد اصطفى ابن عمه برهوم وتبناه من بين عشيرته وأولي قرباه لمكان صرامته ودهائه واختصاص أبيه برهوم المكنى أبا عامر بعثمان بن يغمراسن شقيقه من بين إخوته فكان يؤثره على بنيه ويفاوضه في شؤونه ويصله إلى خلواته وكان دفع إلى ابنه عبد الرحمن أبا تاشفين أترابا له من العلوجين يقومون بخدمته في مرباه ومنتشئه كان منهم: هلال المعروف بالقطاني ومسامح المسمى بالصغير وفرج بن عبد الله وظافر ومهدي وعلي بن تاكررت وفرج الملقب شقورة وكان ألصقهم وأعلقهم بنفسه تلاد له منهم يسمى هلالا وكان أبو حمو أبوه كثيرا ما يقرعه ويوبخه إرهاقا في اكتساب الخلال وربما يقذع في تقريعه لما كان عفا الله عنه فحاشا فيحفظه لذلك وكان مع ذلك شديد السطوة متجاوزا بالعقاب وحدوده في الزجر والأدب فكان أولئك العلوجين تحت رهب منه وكانوا يغرون لذلك مولاهم أبا تاشفين بأبيه ويبعثون غيرته لما يذكرون له من اصطفاء ابن أبي عامر دونه وقارن ذلك إلى مسعود بن أبي عامر أبلى في لقاء محمد ابن يوسف الخارج على أبي حمو البلاء الحسن عندما رجع من حصار بجاية فاستحمد له السلطان ذلك وعير ابنه عبد الرحمن بمكان ابن عمه هذا من النجابة والصرامة يستجد له بذلك خلالا ويغرية بالكمال وكان عمه أبو عامر إبراهيم بن يغمراسن ثري بما نال من جوائز الملوك في وفاداته وما أقطع له أبوه وأخوه سائر أيامهما.
ولما هلك سنة ست وتسعين وستمائة أوصى أخاه عثمان بولده فضمهم إليه ووضع تراثهم بموضع ماله حتى يأنس منهم الرشد في أحوالهم حتى إذا كانت غزاة ابنه أبي سرحان هذه وعلا فيها ذكره وبعد صيته رأى السلطان أبو حمو أن يدفع إليه تراث أبيه لاستجماع خلاله فاحتمل إليه من المودع ونمي الخبر إلى ولده أبي تاشفين وباطنته السوء من العلوجين فحسبوه مال الدولة قد حمل إليه لبعد عهدهم بما وقع في تراث أبي عامر أبيه واتهموا السلطان بايثاره بولاية العهد دون ابنه فأغروا أبا تاشفين بالتوثب على الأمر وحملوه على الفتك بمشتويه مسعود بن أبي عامر واعتقال السلطان أبي حمو ليتم له الاستبداد وتحينوا لذلك قائلة الهاجرة عند منصرف السلطان من مجلسه وقد اجتمع إليه ببعض حجر القصر خاصته من البطانة وفيهم مسعود بن أبي عامر والوزراء من بني الملاح وكان بنو الملاح هؤلاء قد استخصهم السلطان بحجابته سائر أيامه وكان مسمى الحجابة عنده قهرمة الدار والنظر في الدخل والخرج وهم أهل بيت من قرطبة كانوا يحترفون فيها بسكة الدنانير والدراهم وربما دفعوا إلى النظر في ذلك ثقة بأماناتهم نزل أولهم بتلمسان مع جالية قرطبة فاحترفوا بحرفتهم الأولى وزادوا إليه الفلاحة وتحلوا بخدمة عثمان بن يغمراسن وابنه وكان لهم في دولة أبي حمو مزيد حظوة وعناية فولى على حجابته منهم لأول دولته محمد بن ميمون بن الملاح ثم ابنه محمد الأشقر من بعده ثم ابنه إبراهيم بن محمد من بعدهما واشترك معه من قرابته على بن عبد الله بن الملاح فكانا يتوليان مهمه بداره ويحضران خلوته مع خاصته فحضروا يومئذ مع السلطان بعد انفضاض مجلسه كما قلناه ومعه من القرابة مسعود القتيل وحماموش بن عبد الملك بن حنينة ومن الموالي معروف الكبير ابن أبي الفتوح بن عنتر من ولد نصر بن يني أمير بني يزيد بن توجين وكان السلطان قد استوزره.
فلما علم أبو تاشفين باجتماعهم هجم ببطانته عليهم وغلبوا الحاجب على بابه حتى ولجوه متسايلين بعد أن استمسكوا من اغلاقه حتى إذا توسطوا الدار اعتوروا السلطان بأسيافهم فقتلوه وحام أبو تاشفين عنها فلم يفرجوا عليه ولاذ أبو سرحان منهم ببعض زوايا الدار واستمكن من غلقها دونهم فكسروا الباب وقتلوه واستلحموا من كان هنالك من البطانة فلم يفلت إلا الأقل وهلك الوزراء بنو الملاح واستبيحت منازلهم وطاف الهاتف بسكك المدينة بأن أبا سرحان غدر بالسلطان وأن ابنه أبا تاشفين ثأر منه فلم يخف على الناس الشأن وكان موسى ابن علي الكردي قائد العساكر قد سمع الصيحة فركب إلى القصر فوجده مغلقا دونه فظن الظنون فخشي استيلاء مسعود على الأمر فبعث إلى العباس بن يغمراسن كبير القرابة فأحضره عند باب القصر حتى إذا مر بهم الهاتف واستيقن مهلك أبي سرحان رد العباس على عقبه إلى منزله ودخل إلى السلطان أبي تاشفين وقد أدركه الدهش من المواقعة فثبته ونشطه فحفه وأجلسه بمجلس أبيه وتولى له عقد البيعة على قومه خاصة وعلى الناس عامة وذلك آخر جمادى الأولى من تلك السنة.
وجهز السلطان إلى مدفنه بمقبرة سلفه من القصر القديم وأصبح مثلا في الآخرين والبقاء لله.
وأشخص السلطان لأول ولايته سائر القرابة الذين كانوا بتلمسان من ولد يغمراسن وأجازهم إلى العدوة حذرا من مغبة ترشيحهم وما يتوقع من الفتن على الدولة من قبلهم وقلد حجابته مولاه هلالا فاضطلع بأعبائها واستبد بالعقد والحل والابرام والنقض صدرا من دولته إلى أن نكبه حسبما نذكره وعقد ليحيى بن موسى السنوسي من صنائع دولتهم على شلف وسائر أعمال مغراوة وعقد لمحمد بن سلامة بن علي على عمله من بلاد بني يدللتن من توجين وعزل أخاه سعدا فلحق بالمغرب وعقد لموسى بن علي الكردي على قاصية المشرق وجعل إليه حصار بجاية وأغرى دولته بتشييد القصور واتخاذ الرياض والبساتين فاستكمل ما شرع فيه أبوه من ذلك أربى عليه فاحتفلت القصور والمصانع في الحسن ما شاءت واتسعت أخباره على ما نذكره إن شاء الله تعالى.